الأحد، ٢ سبتمبر ٢٠٠٧

الجريح


شجاعة الرجال فى حرب 1956

الجــريح
قصة محمود البدوى


كان " عبد الغنى " .. خفير مزلقان على السكة الحديد فى الخط الشرقى وكان المزلقان يبعد عن مدينة الإسماعيلية ببضعة كيلو مترات .

وعندما بدأت الحرب فى القنال يوم 29 اكتوبر .. لم يتغير شىء فى حياة عبد الغنى وفى الكوخ الذى يعيش فيه بجانب الشريط الحديدى .. فقط كان يرى قوافل السيارات والدبابات تتجه إلى الميدان .. ولا تنقطع التحركات لحظة وكان يقوم بحياته اليومية الرتيبة .. دون ملل . فعندما يسمع رنين الجرس فى الكشك الخشبى الصغير يتحرك سريعا ويغلق الخط ..

***

ولم يكن فى هذا المكان المنعزل عن الحياة .. يستمع إلى الراديو أو يقرأ الصحف .. فغابت عنه كل تطورات المعركة .. ولكن جوارحه كلها كانت تحس بها .. كان يحس بها من تحركات الجنود فى الطريق ومن القطارات المحملة بالعتاد والدبابات والمدرعات .. التى تمر بجانبه .. ومن طائرات الأعداء .. التى تلقى القنابل فى كل مكان ..

وكان الدكتور " قاسم " الطبيب فى أحد مستشفيات المدينة .. يمر بالمزلقان كل صباح وهو ذاهب إلى المستشفى .. وفى المساء وهو عائد منه .. وكان عبد الغنى يعرفه من سنوات ويحادثه كلما مر بسيارته ويسأله عن أخبار الحرب ..

ولكن الطبيب انقطع عن المرور بالمزلقان فانشغل عبد الغنى وخشى أن يكون الطبيب الشاب قد أصيب برصاص الأعداء .. وأن تكون الحوادث قد تطورت وحملت معها الأنباء المحزنة .. فتألم .. وكانت طاقته العصبية تدفعه إلى الحركة وإلى سؤال كل عابر فى الطريق .

***

وفى المساء .. سمع ما كان يخشاه .. سمع من سائق لورى عبر المزلقان .. أن الأعداء سيضربون بطائراتهم الخطوط الحديدية .

فوثب " عبد الغنى " إلى السائق ليخنقه ثم رجع إلى نفسه فأفلته .. ووقف بعد أن ذهب الرجل وغاب بسيارته .. ينظر إلى ما حوله .. ويتساءل .. يضربون الخطوط الحديدية .. القضبان .. والفلنكات .. وأسلاك التليفون .. وأعمدة البرق .. والزلط والتراب الذى بين الشريط .. هذه الأشياء كلها قطعة من لحمه وجزء من دمه منذ ثلاثين عاما وهو خفير فى المصلحة .. وقد شربت رئتاه من دخان القطارات وامتزج عرقه بزيتها .. وانطبعت يده على حديد البوابة .. التى يفتحها ويغلقها مرات فى الساعة ..

فكيف يدمر الخط .. ويعطل هذا الشريان الذى يتدفق فى دمه .. كيف .. ثار دمه وتيقظت حواسه كلها .. وكان غير مسلح .. فحمل بندقية سريعة ولم يعد مسئولا عن المزلقان وحده .. بل أصبح حارسا للشريط كله ..

وفى اليوم السابق للهجوم الغادر على ميناء بور سعيد ، اشتد الضرب فى هـذه المنطقة وفى منطقة التـل الكبير والقصاصين .. وكانت المدافع المضادة تمزق طائرات الأعداء وتصليها بالنار الحامية.

وكان عبد الغنى يرى بعض هذه الطائرات تحلق قريبا منه .. ثم تفرغ حمولتها وتلوذ بالفرار ، فكمن على ربوة بجانب الشريط وأخذ يطلق عليها النـار بشدة .. حتى تصور كل من سمـع الضرب أن هناك فصيلة كاملة تقاتل هذه الطائرات .. وترد على عدوانها ..

أخذت بندقيته تزأر .. وحاصرته الطائرات وألقت حوله القنابل المتفجرة .. ومع هذا لم يكف عن القتال .. ظل يقاتل .. ويقاتل .. حتى أصابته الشظايا .. فجرح جرحا دفينا .. وسكتت بندقيته وغاب عن الوجود ..

***

وعندما فتح عينيه .. وجد الظلام يخيم ومد بصره .. إلى الشريط .. فلم يستطع أن يرى شيئا .. فتحامل على نفسه والدم ينـزف منه وزحف ببطء ومشقة .. على الرمال وبعد ثلاثين مترا وجد أثر القنابل ..

وجد حفرة عميقة بجانب الخط ثم شهد القضبان ملتوية وطارت الفلنكات ودعائم الكوبرى الصغير الذى يمر فوقه القطار فانتفض قلبه .. وارتعش ونظر إلى النجوم .. وقدر أن الساعة بلغت الثامنة مساء وأحس بمثل الخنجر يمزق ظهره .. لأن قطار الركاب سيمر بعد عشر دقائق وتصور عبد الغنى الكارثة .. عندما تنقلب العربات وتحترق .. فارتعش وصرخ .. وتذكر القطارات الطويلة .. التى تمر بالليل محملة بالمدافع والدبابات والمؤن وتصورها عندما تقترب من هذا المكان وتنقلب عرباتها وقدر ما يصيب الوطن من خسارة فعاد يزحف وهو يتصبب عرقا وينزف دما .. حتى وصل إلى الكشك ومد يده إلى سماعة التليفون فتناولها ولكنه لم يستطع أن ينتصب .. وسقط .. بالسماعة على الأرض .. وجن وعاد يصرخ عندما سمع جرس الإشـارات يدق منـذرا باقتراب القطار . . والسائق لايعرف ما حدث على الخط وما من شخص ينبهه .

وحاول عبد الغنى أن يزحف على بطنه .. فلم يستطع أن يتحرك مقدار شبر واحد ، ولكن يده عثرت على شىء فتقلصت عليه ، ونظر إلى الكوخ فوق رأسه وعيدان الحطب بجواره .. ولمعت فى رأسه فكرة ولكنه قرر خطورتها .. لأنه سيحترق مع الكوخ عندما تقترب منه النار ولا يستطيع أن يتحرك ويبتعد عنها .. وتردد لحظات والعرق يتصبب من جسمه المحموم ، ولكنه سمع صفير القطار .. فجن .. وتناول عود الثقاب من جيبه .. وأشعل عودا من الحطب .. ورماه على القش فأشتعل الكوخ .. ورأى النور يتوهج ويقلب كل شىء إلى نهار مبصر ..

وكان القطار يصفر .. ثم لم يعد يسمع صفيره .. وغاب عن الوجود.

***

وعندما فتح عينيه .. وجد نفسه فى مستشفى الزقازيق .. والدكتور قاسم بجواره .. وعرف أن الدكتور التقطه فى اللحظة الحاسمة وانتشله من النار وهو مار بسيارته ولما سأل عبد الغنى عن القطار الذى كان يصفر .. وعرف أنه توقف على ضوء النهار قبـل الكوبرى المحطم .. بسبعة أمتار !
================================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 25/12/1956 وأعيد نشرها بمجموعة صقر الليل لمحمود البدوى 1971
================================

عند البحيرة




عند البحيرة
قصة محمود البدوى

كانت المدبنة الباسلة تقاوم الغزو بقلب واحد .. فالرجال والنساء وحتى الأطفال .. كانوا يقاتلون ببسالة من شبر إلى شبر .. وكانت القنابل تسقط عليهم من السماء والأرض .. والنيران تندلع حولهم ومع ذلك لم يتخاذل منهم أحد ولم يتراجع ..

وظلت البيوت صامدة ومشرقة فى وهج الشمس .. ثم أخذت كرات من اللهب تسقط عليها .. وأخذت القذائف تدكها .. وبين الأطلال والرماد وقطع الأثاث المتناثرة كان الأهالى يتجمعون .. من جديد ويقيمون المتاريس .. ويطلقون النيران ..

واشتدت المعركة وانقلبت إلى جحيم .. فأخذ الناس يخرجون النساء والأطفال .. من المدينة ..

ولكن " زبيدة " بقيت فى بيتها .. ومن الصباح الباكر وهى تسمع الضرب .. يأتى من ناحية البحر وكان شديدا مروعا .. ولكنها كانت مطمئنة .. وتقول لكل من تراه سنسحق الأنذال ..

وكان زوجها قد حمل سلاحه وذهب إلى مطار " الجميل " ومنذ الأمس وهو يقاتل هناك .. وفى الصباح علمت أن المعركة انتقلـت إلى بور فؤاد .. وزوجها فى قلب الجبهة .. يقاتل مع الوحدات المدرعة ..

وفى آخر الليل .. عاد بعض الرجال .. ولكنه لم يعد .. فانتفض قلبها .. ولكنها لم تسأل عنه .. كانت تعرف أن المعركة مستمرة وأنه سيعود .. حاملا أنباء النصر ..

وكان الميكروفون يزعق فى الشارع .. والناس يتدافعون كالموج من جبهة إلى جبهة .. ودوى المدافع يصم الآذان ..

***

وكانت هناك طابية على الساحل .. ترسل بين الفينة والفينة .. قذيفة .. قذيفة واحدة .. ولكنها تدك الجبال .. وتجعل البحر يتحول إلى طوفان .. وكانت زبيدة كلما سمعت هذه الطلقة .. تفرح وتطمئن .. كانت تعرف أنه مادامت هذه الطابية تعمل .. فلن يجرؤ اسطول الأعداء على الاقتراب من الشاطىء ..

ولكن بعد غروب الشمس .. سكتت الطابية .. سكتت المدافع التى كانت تفرح قلبها وتشيع فيه الأمان .. فاعتصرها الألم .. وبعد ساعة .. سمعت بمقتل زوجها ..

***

وفى اليوم الثالث من المعركة سمعت زبيدة وهى فى صحن الدار الضرب يقترب من منزلها والمنازل التى بجوارها تنهار .. فتناولت ابنها الصغير على صدرها بسرعة ودفعت غلامها الثانى أمامها وجرت .. وعندما أصبحت فى وسط الشارع .. كان الغبار والسواد يحجبان الأبصار ..

ولما انقشعت عن بصرها الغشاوة .. لم تجد ابنها الذى كان بمشى بجوارها فجنت .. ودارت ببصرها فى المكان وجرت مقبلة مدبرة .. وكان الرصاص والقذائف واللهب يتساقط حولها كالمطر ..

وأخذ جدار من بيتها ينهار .. فصرخت ، فى تلك اللحظة .. برز شاب .. بجوارها ، وعرف أنها تركت ابنها فى الداخل .. فاندفع إلى داخل البيت كالقذيفة وغاب لحظات ، وكانت زبيدة فى خلالها واقفة فى مكانها متخشبة .. لاتطرف ..

وعندما خرج " ماهر " يحمل ابنها حيا على صدره .. كان التراب يلطخ قميصه والدم يسيل من وجهه .. وأدركت أنه تعرض للموت المحقق وهو يبحث عن الغلام .. وأسرع بها لتخرج من المكان ..

ولما خرجوا من المدينة .. كان الظلام يخيم .. واتخذوا الطريق إلى بحيرة " المنزلة " ..

***

ولما بلغوا الشاطىء .. كان الليل قد انتصف ، وعلموا أن الإنجليز احتلوا المدينة .. وحاصروها ..

وكان مع " ماهر " بعض الماء فى " زمزمية " فأعطاه للطفلين .. ونظرت إليه زبيدة صامتة ..

وقد قطـع الأنذال الماء عن المدينة .. وهى تبحث عن قطرة لطفليها ..

***

ووجدوا على شاطىء البحيرة جمعا غفيرا من الناس ينتظرون المراكب ، ولكن لم تكن هناك " فلوكة " واحدة ..

وجلس الناس صامتين ، وكان الضرب فى المدينة على أشده والطائرات تحلق فوقهم ..

***

وظل ماهر يبحث على الشاطىء ويرقب مراكب الصيد .. وكل شراع يخفق ..

وكان الأهالى متناثرين وكلما شاهدوا قاربا يقترب من البر .. اندفعوا نحوه بسرعة .. وأخذوه وأبحروا ..

ثم انقطعت القوارب لمدة ساعة .. فخشى ماهر على السيدة وطفليها من طائرات الأعداء ، ومشى على الساحل كما اتفق ، فلمح عن بعد زورقا يقترب فرجع إلى زبيدة ..

وكان الطفل الأكبر قد نام فحمله .. وحملت هى الأصغر .. وسارا نحو الزورق ..

وكانت زبيدة ترتدى ثوبا بسيطا .. الفستان الذى كانت تلبسه فى البيت منذ ساعات .. ولم يكن معها أى شىء آخر .. أذهلها الموقف حتى عن أخذ النقود .. فتركتها كلها فى الدولاب ..

وسألها وقد رآها لا تحمل حتى حقيبة اليد التى تحملها السيدات ..
ـ خرجت هكذا .. دون حقيبة ..
ـ ولا منديل .. أذهلنى الموقف عن كل شىء .. حتى النقود .. وهى أسـهل شىء يحمل .. تركتها فى الدولاب .. كلها .. كل ما نملك .. لقد طار عقلى .. وتصورت أن القنبلة سقطت على الطفلين ..
ـ لك عذرك .. والنقود فداك ..
ـ عندما تطورت الأحوال .. وعلمنا أن أسطولهم يقترب .. جمعت كل نقودنا .. وكل ما معى من جواهر .. ووضعتها فى علبة فى الدولاب .. ولكن نسيتها .. أنسانيها الموت ..
ـ فداك .. وكل هذه الأشياء تعوض .. مادمنا نعيش ونعمل ..
ـ ولكن أخشى أن تقع فى أيديهم غنيمة .. الأنذال .. ان لم يكن البيت قد سقط كله أو احترق .. سيأخذون كل شىء ..

ولما أصبحوا فى اتجاه الزورق جلسوا فى انتظاره ، وكان الصغير فى حجرها نائما .. ولا يدرى شيئا مما يدور حوله ، أمـا الطفل الآخر فقد خلع ماهر سترته .. وأرقده على نصفها ودثره بالنصف الآخر ..

ورآها وليس معها حتى شال تلقيه على كتفيها .. ونظرت إليه بعد أن خلع سترته .. وكان ممسكا بالبندقية .. ورأت وجهه باسما يتفجر بالحياة والأمل ..
وقالت هامسة :
ـ أتعبتك ..
ـ لاتقولى هذا .. الآن .. اننا فى حرب ..
ـ ولكننى عرضتك للموت ..
ـ إن لم أمت .. وأنا أدافع عنك .. وعن الأرض التى نقف عليها ونأكل منها .. فمتى أموت ..
ـ لست من أهل بور سعيد ..؟
ـ أنا من القاهرة .. وجئت بور سعيد فى مهمة قصيرة .. يوم الثلاثاء الماضى .. وبقيت وشهدت المعركة ..
ـ ولكنك مسلح ..؟
ـ انها بندقيـة .. شهيـد .. رأيته يسقط .. بعد أن أطلق آخر طلقة .. كان كأنه فرقة كاملة .. كان يتلقفهم من السماء والأرض .. كان قوة رهيبة .. ولما فرغ منه الرصاص .. سكت .. مثل هذا يموت دائما .. وهذا أسوأ ما فى المسألة ..

وتذكرت زوجها .. فدمعت عيناها .. ونكست رأسها ..

ورآها وحيدة مع طفليها .. ولم يسألها .. عن الرجل .. كان يعرف أن هناك كثيرات مثلها ذهب رجالهن إلى المعركة ..

وكانت تشعر معه بالأمان ، فمذ وقف بجانبها .. وأنقذ لها الطفل وهى تشعر بالأمان ..

رأت فيه شيئا جعلها تنسى هول المعركة .. وتنسى أنها فقدت زوجها منذ ساعات .. كان صامتا .. قليل الكلام .. ولكنه أشاع فى نفسها الدفء والسكينة .. ومع أنها لاتزال على الشاطىء .. ولم يقترب القارب .. وحولها المدافع تقصف والنيران تتأجج ، والأعداء يرمون القنابل على البحيرة .. ليغرقوا الزوارق بمن فيها .. ولكنها كانت تشعر بالأمان المطلق ..

ورأته بعد أن اقترب الزورق يقفز فى الماء ويخوض نحوه .. ومع أنه وجده محملا بالأكياس ولكنه جره .. إلى الشاطىء ، وقال له الملاح :
ـ اننى محمل .. ولا أستطيع أن آخذ أكثر من ثلاثة ..
ـ اننا أقل من ذلك ..
ورسا الزورق ..
ولكن بعد دقيقة .. جرت امرأتان .. ورجل عجوز ..
فأركبهم ماهر .. وقبل أن يبحروا ظهرت امرأة أخـرى وكانت تجرى وعلى رأسها متاعها .. وتصرخ مستنجدة :
وقال ماهر للملاح :
ـ هاتها ..
ولما ركبت .. كاد الزورق يغرق .. وظهرت الخطورة جلية لو أبحروا على هذه الحالة ..
وقال الملاح :
ـ لابد أن ينزل واحد ..
ونظر الناس بعضهم إلى بعض .. ولم يتحرك أحد .. وخيم الصمت والذهول ..
ثم وقف ماهر .. ووثب إلى الشاطىء ..
ونظرت إليه زبيدة وهو يقف وحيدا على الشاطىء فى الظلام والهول .. ولم تملك عبراتها ..

وبعد لحظات من ابحارهم .. حلقت فوق الزورق طائرة وأخذت تضربه .. بالمدافع .. ولكنها لم تصبه .. وعادت مرة ومرة .. وفى المرة الثالثة .. رأت زبيدة ماهر يصوب على الطائرة ويسقطها ..

***

ومر اسبوع .. وانتقلت فى خلاله زبيدة من المطرية .. إلى المنصورة لتقيم مع أختها .. وكانت فى كل صباح تنزل إلى الشارع لتسمع من الناس أخبار بور سعيد .. لقد فقدت زوجها فى المعركة .. وشاءت الأقدار أن تفقد رجلا آخر .. كان ذهنها مشغولا به لأنها تركته على الساحل حيا .. يتحرك ويقاتل .. الطائرات التى تحلق فوقه ..

كان ذهنها مشغولا به .. وكانت تود أن تعرف ما حدث ..

ثم سمعت ما جعلها تيأس كلية .. وتفقد كل أمل .. فبكت .. بكت على الرجل الغريب .. كما بكت من قبل على زوجها ..

***

ومر اسبوع آخر .. وفى صباح يوم من أيام الاثنين .. وكانت أختها قد خرجت بالأطفال إلى المنتزة فى " شجرة الدر " لأول مرة .. تريهم النهر وتجعلهم يلعبون فى الهواء والشمس .. سمعت " زبيدة " طرقا خفيفا على الباب .. ولما فتحت وجدت ماهر .. وكان كما تركته على ساحل البحيرة .. على كتفه البندقية وخزان الرصاص ولكن ذراعه اليمنى كانت مشدودة إلى عنقه .. وعليها الضمادات .. ولا تدرى كيف قاومت الرغبة العنيفة فى الارتماء على صدره .. واكتفت بالنظر إليه صامتة .. عجزت عن الكلام ..
وسمعته يقول :
ـ تعبت .. فى البحث عنك .. حتى وجدتك ..
ـ تفضل ..
وأصبحت كلها حركة ..
ـ تفضل .. وأشارت بيدها ..
ودخل ..
ـ كيف عرفت البيت .. هذا عجيب ..
ـ عرفته من سيدة فى المطرية .. بعد أن ذكرت لها عنوانك .. فى بور سعيد .. وأطلعتها على رسالة باسمك وجدتها فى بيتك ..
ـ رسالة وجدتها فى بيتى ..؟!
ـ أجل ..

ورأت ذراعه السليمة تتحرك ويده تخرج الرسالة وشيئا آخر من حمالة القماش المدلاة بجانبه .. وقدم هذا الشىء لها .. فنظرت إليه متعجبة .. انها العلبة التى حدثته عنها والتى تركتها .. فى الدولاب ووضعت فيها كل النقود والأشياء الثمينة ..
لقد دخل المدينة المحاصرة وقاتل وأتى بها ..
ونظرت إلى ذراعه الجريحة .. وسألت :
ـ أصبت ..؟
ـ أجل أصابنى الأنذال .. وأنا أقاتل على حدود المدينة .. ولكن سأبرأ قريبـا .. بعد اسبوع واحد .. سأنزع الضمادات وأذهب إلى هناك ..
ـ إلى الاسماعيلية ..؟
ـ لا إلى بور سعيد .. وسأقاتل .. حتى أطرد الخنازير .. وسنطهر المدينة الباسلة من رجسهم ..
ونظرت إليه فى اكبار ..
واستأنف حديثه :
ـ وسأبنى لك بيتا .. جديدا .. بالخرسانة هذه المرة .. حتى لا يسـقط .. وسنجعل الدولاب إلى داخل الحائط .. حتى لا تسرق النقود ..
وضحكت ..
ونهض ومد يده مسلما ..
ـ ذاهب .. هكذا .. سريعا ..
ـ أجل .. وسأعود ..

وهبطت معه السلم وودعته على الباب الخارجى .. ومضى فى الطريق الطويل على حـافة النهر بين الأشجار .. والشمس يسطع نورها .. ويملأ الآفاق ..

وسألتها أختها .. وكانت قد عادت بالأطفال .. ورأتها .. من بعيد وهى تودع الرجل ..
ـ تعرفينه ..؟
فلم تنبس " زبيدة " ..
وظل بصرها يتبع الرجل ..

وعندما حولت وجهها إلى أختها رأت هذه دمعة صافية قد وقفت حائرة .. على الخد ..

وصدحـت الموسيقى بعد لحظة فى الطريق .. ومر الشبان المسلحون .. وخوذاتهم وحرابهم .. تلمع فى الشمس .. واستقبلهم الناس بالهتاف والتصفيق ..

ووقفت زبيدة فى الصف تحيى الرجال الذاهبين إلى المعركة .. وتصورت ماهر هناك فى المقدمة يقاتل قتال الأبطال ليطرد الغزاة .. وكانت الصورة رائعة والشمس الطالعة والموسيقى الصادحة تزيدها روعة ..

====================================
نشرت القصة بمجلة الجيل 10/12/1956 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " وفى مجموعة " قصص من القنال " ـ مكتبة مصر
====================================